2009-06-19 12:25:13
القاهرة –الطبيب:
يمثل الإسهام العلمى العربى فى مجال الطب حلقة هامة من حلقات سلسلة تاريخ العلم العالمى . فالبشرية جميعها تدين بالكثير لاطباء العرب والمسلمين الذين قدموا انجازات وابتكارات رائدة فى المجال الطبى ، وذلك ابان فترة الازدهار الحضارى الممتدة من نهاية القرن الثانى الهجرى إلى اواخر القرن السادس الهجرى ..
وقد كثرت الكتابات العربية والغربية التى تناولت فترة ازدهار الطب العربى ، وشارك خبير المخطوطات المصرى د. خالد حربى الأستاذ بجامعة الإسكندرية المصرية بدراسة عن أهم اعلام الحضارة العربية والاسلامية المبتكرين فى المجال الطبى ، إلا وهو أبو بكر محمد بن زكريا الرازى ، طبيب المسلمين بدون منازع وجمة الطب فى اوروبا حتى بداية العصور الحديثة ، وصدرت الدراسة عام 1999م تحت عنوان " الرازى الطبيب واثره فى تاريخ العلم العربى " .
وفى كتاب صدر له مؤخرا بعنوان " الأسس الابستمولوجية لتاريخ الطب العربى يتساءل د. حربى عن المراحل السابقة على فترة ازدهار الطب العربى ، تلك التى أدت إلى ظهور كبار أطباء المسلمين من أمثال الرازى ، ابن سينا ، ابن الجزار والزهراوى .... وغيرهم حيث كانت هناك – بالطبع – مقدمات للطب عند العرب قبل عصر الترجمة بحيث يمكن أن يكون ازدهار الحركة الطبية عند مسلمين ، فى فترة ازدهارها ، حلقة فى سلسلة متسمرة ومتقدمة منذ ما قبل الإسلام هذه الجحركة الطبية المزدهرة ترجع فى معظمها إلى جملة اسس ومقومات معرفية سابقة عليها ، ومن بينها حركة الترجمة وبيت الحكمة البغدادى.
ومن منطق أن الحضارة الإنسانية تشكل سلسلة مشتركة الحلقات بين الامم ، ومن منطلق قاعدة التواصل العلمى والمعرفى بين الامم ، يأتى هذا الكتاب ليقف على الحركات العلمية الطبية السابقة على حركة الطب العربى ، ومدى تأثير الأولى فى الأخيرة ، وبذلك يكون محاولة لتغطية جانب مهم على اى باحث فى تاريخ الطب العربى أن يتعهرف عليه أولا ، لكى يدلف إلى الوقوف على اتلحجم الحقيقى لانجازات أطباء الحضارة العربية الإسلامية ، هؤلاء الذ ين اثروا بدورهم فى الحضارة الغربية الحديثة .
وقد اقتضى ذلك عى المؤلف أن يقوم بتقسيم الكتاب إلى عدة فصول يتناول فى كل فصل مرحلة من هذه المراحل حيث يتعرض الفصل الأول لطب الحضارة المصرية القديمة ،وذلك من خلال الإشارة إلى أن هرمسا الذى قيل انه نبى الله ادريس ، هو اول من تكلم فى الطب فى مصر القديمة ، ثم يتعرض المؤلف لابتداء الطب المصرى القديم الفعلى على يد امحوتب وكيف أن المصريين قد رفعوه إلى مصاف الالهة ، فرسموه الها للطب هذا إلى جانب القاء الضوء حول أهم الوثائق الطبية المصرية القديمة المكتوبة على ورق البردى ، والتى اسفرت الحفريات عنها فى القرن الماضى ، واهمها بردية ايبر ، وبردية ادوين سميث ن وبردية هيرست ، وبردية شيستر بيتى ، وبردية كاون ، وبردية برلين وغيرها من البرديات التى اوضحت أن المصريين القدماء قطعوا شوطا كبيرا فى سبيل ازدهار الطب ، وذلك ضمن حضارتهم المعهودة فى فروع العلم المختلفة .
أما طب الحضارة البابلية فهو الموضوع الذى يدور حوله الفصل الثانى فى الكتاب وفيه بدأ البحث عن نشأة الحضارة البابلية ثم تعرض المؤلف للجانب الطبى منها / مركزا على قانون حمورابى الذى احتوى على اعظم وثيقة بالطب البابلى والتى تتحدث بصورة عامة عن الأطباء الجراحين دون سواهم . وانتهى الفصل إلى أن الأطباء والصيادلة البابلين قد استطاعوا ام يحرزوا تقدما ملموسا فى الطب والصيدلة ، اتفق عامة مع حضارتهم المعروفة آنذاك .
فيما يلقى الفصل الثالث الضوء على طب الحضارة الفارسية وكيف اهتم العربى بالطب ابتداء من عصر ( جمشيذ) الذى اظهر علوم الصناعة الطبية ، وتصرف فى افانينها ، ووقف على اسرارها الغامضة وكيف تأثر الطب الفارسى فى معظمه بالطب المصرى القديم ، والطب الهندى ، والطب اليونانى ، فضلا عن اختلاطه باعمال الكهنة إلا أن ذلك لم يجعل الطب الفارسى يخلو من مبادئ علمية جيدة .
ويوضح المؤلف فى ثنايا الفصل الرابع استفادة الهنود من اسهامات الحضارة البابلية فى الطب والصيدلة ، ثم تعرض للاضافات الهندية التى اضافها اطباؤهم والتى ميزت طبهم (كطب هندى) وكل ذلك قد جاء فى مصادرهم التاريخية الطبية ، واهمها : كتاب سردا ، وكتاب شاراكا واللذان يبينان مدى تفوق أطباء الهنود وتمكنهن من الفن الطبى والعلاجى على أيامهم .
ويخص الفصل الخامس لطب الحضارة الصينية وكيف أن الصينين لم يقتبسوا من غيرهم إلا القليل وتمسكوا بمعتقداتهم وفلسفتهم الخاصة ، وكان الطب عندهم خليطا من الحكمة التجريبية والخرافات الشعبية ، ونبغ فيه أطباء عظماء قبل عهدا سقراط بزمن طويل إلى أن درجة التى معها ، كثرت وتنوعت العقاقير الطبية ، كما اطنب الأطباء وتحذلقوا فى تشخيص الإمراض ،فقد وضعوا من المحميات مثلا الف نوع ، وميزوا من أنواع النبض اربعا وعشرين حالة .... الخ ، فيما يهتم الفصل السادس من الكتاب ببيان كيف لعبت الاساطير القديمة دورا بارزا فى حياة اليونانيين بشى مجالاتها ، وقد نصبت هذه الاساطير " ابولو" الها للشفعاء وطبيبا لالهة جبل اوليمب ويتناول المؤلف شىء من التفصيل اسفيليبوس وشعبيته والمدارس الفلسطينة التى مست الطب من خلال بحثها العام عن الحقيقة ، لينتقل بعد ذلك إلى بداية التقليد الطبى اليونانى فى مرحلة النضوج ، وذلك بالوقوف على انقراط ومجهوداته العظيمة فى المجال الطبى ، وكيف اعتبر من اعظم أطباء العالم فى التاريخ ، و" أبى الطب" كما اسماه الغرب . وقد اتضح من خلال البحث فى هذا الفصل أن ابقراط كان متضلعا فى العلوم الطبية ، فادخل الطب فى إطار علمى مستغلا الفحص الاكلينيكى والاستنتاج المنطقى السليم وأتضح ذلك فى كثير من مؤلفاته ، وأهمها : كتاب الفصول ، وكتاب تقدمة المعرفة ..و انتهى هذا الفصل بملاحظة مؤداها انه بعد مضى زمن على أبو قراط اكتفى الأطباء بمحاولة تفسير نصوصه ، أما جوهر طريقته وهو الملاحظة الحرة ،فقد اصبح شيئا ثانويا لا يبالى الأطباء به ، فنهضت مدرسة الإسكندرية التجريبية ضد هذا التيار العقلى المتزمت . وحول طب مدرسة الإسكندرية يخصص د. خالد حرب الفصل السابع من كتابه حيث يقف على ازدهار الطب فى الإسكندرية ، بعد فترة الضعف الممتدة من بعد ابقراط إلى عصر البطالمة فى مصر فقد نشط الطب فى مدرسة الإسكندرية ، وكان اشهر من نبغ فيه هيروفيلوس ، أول مشتغل بالتشريح العلمى ، وارازيستراتوس أول من فرق بين الوقاية والتداوى ، وعلق أهمية أعظم على الوقاية ، كما أولى الأنسجة والأوعية اعمل الأول فى دراسة الإمراض ، وشرح الدماغ والقلب وغير ذلك ، وبعد ذلك يتعرض البحث فى هذا الفصل لجالينوس كطبيب عبقرى من أعظم عباقرة البشر ، وذلك فى وسط متخبط ، وممتد من نهاية فترة فيلوس ، وارازيستراتوس ، وحتى القرن الثانى الميلادى .
ويوضح المؤلف فى الفصل الثامن والمعنون بـ " الطب العربى قبل ظهور الإسلام " انه إذا كان هناك ما يسمى " بالطب الجاهلى العربى " فانه لا يخرج عن بعض المعارف الطبية التى نقلها العرب ممن جاورهم من الشعوب القديمة ، لاسيما الهنود والفرس والكلدانيين ، واليونانيين ، بالإضافة إلى ما استنبطوه من تجاربهم البسيطة كأثر من آثار خبرتهم العملية . ولكن ذلك لم يمنع وجود جماعة من الأطباء الطبيعيين قدموا لمرضاهم بعض النصائح السليمة ، ووضعوا لعلاجهم طائفة من الأعشاب والنباتات ذات الأهمية المعروفة فى العلاج .
وينتقل بعد فى الفصل التالى إلى الطب النبوى حيث يقول المؤلف : وفيه وجدنا أن الممارسات الطبية عند العرب قد تابعت مسيرتها فى العصر الجاهلى عند المسلمين بعد بزوغ شمس النبوة ، إلا أنها اتخذت طابعا ايمانيا يتضح بروح الإسلام وتقييم المرض والصحة على أساس العناية والقدرة الالهية وقد عرض الفصل لجملة من الممارسات الطبية والعلاجية التى مارسها رسول الله r وامربها اصحابه ، وانتهى إلى وجوب الاهتمام ببعض الوسائل الطبية والعلاجية التى ظهرت فى عصر الرسول r خاصة وان الطب الحديث قد اثبتت صحتها اليوم ، ومنها التطيب ببعض الأعشاب وعسل النحل ، واللبن ، والحبة السوداء .... وغير ذلك خاصة والعالم ينادى اليوم بالعودة إلى العلاج بالمواد والاعشاب الطبيعية والطب النبوى يقوم فى مجمله على العلاجات الطبيعية .
أما الفصل العاشر فيركز فيه المؤلف على الطب فى الإمبراطورية الأموية حيث يبدأه بنبذة عن امتداد نطاق الدولة الإسلامية فى عصر بنى امية امتداد شاسعا ، ثم يوضح كيف اهتم الامويوين بالعلم فى ظل الإمبراطورية المترامية الأطراف ، وبدأوا بنقل العلوم القديمة كالطب والكيمياء والنجوم والعدد ... وغيرها إلى اللغو العربية . وكان الطب فى مقدمة العلوم التى نالت اهتماما أمويا كبيرا ، فبدأ الطب العربى يتأثر بالاتجاه اليونانى على اثر حركة الترجمة . الأمر الذى أدى إلى ظهور ونبوغ عدد كبير من الأطباء ، من أمثال ابن اثال ، أبو الحكم الدمشقى ، حكم بن أبى الحكم الدمشقى وماسرجويه ، تياذوق ، وزينب طبيبة بنى أود .
ويختتم د. حرب كتابه بفصل حول حركة الترجمة واثرها فى ازدهار الطب العربى وهو أهم فصول هذا الكتاب لان حركة الترجمة والنقل تعد الجسر الحيوى والضرورى الذى عبرت عليه علوم وثقافات الامم غير العربية إلى العربية فما أن انطلق العرب شرقا وغربا لنشر الدعوة الإسلامية ، حتى تكامل مع هذا الانطلاقة توجد اكيد إلى علوم الحضارات القديمة ، فكان أن انطلقت اكبر حركة علمية للترجمة فى العالم الإسلامى ، وكان الطب من اوائل العلوم التى عنى المترجمون السريان والليعاقبة والنساطرة واليهود بنقلها إلى اللغة العربية ، لان الخلفاء والأمراء كانوا يطلبونها بإلحاح لعلاجهم وتمريضهم ، ثم توالت بعد ذلك ترجمة الكتب غير الطبية ، بعد أن شعر المسلمون بانهم فى حاجة إليها فى ثقافتهم الإسلامية الجديدة ، ومن كل ما سبق يتضح أن هذا الكتاب انما يشكل البنية الرئيسية والأساسى المعروف الذى انطلق منه الطب العربى فى عصر الازدهار وبالتالى نجح المؤلف فى رصد وإلقاء الضوء حول الفترات السابقة على الطب العربى من حيث أنها تمثل حلقة مهمة من حلقات سلسلة تاريخ العلم العربى ، والعالمى .