السبت 09 رمضان 1441 هـ - 2 مايو 2020 م
كورونا..ومشاهد القيامة !!!
بقلم د/ محمد سعيد محفوظ عبد الله
غافل الزلزال الكورونى الإنسانية، فأصاب منها ، ما أصاب، وتناسى البعض، وإن ترك أكثريتهم ، أشلاء إنسان؛ بل إن الجماد ربما كان أرق قلبًا ، وألين إحساسًا، وألطف شعورًا، فضلاً عن الحيوان، صدقًا وعدلاً، تتقاطر هذه الآية القرآنية متقاطعةً ، مع ذيك المشهد الكورونى: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (البقرة:74)، لقد قضى على النبل الإنسانى –أو كاد-فهاهو أب ، ما يلبث يدلف البيت ويلجه، حتى يبادر طفله إليه؛ يبغيه عناقًا وتقبيلاً، وإذ بالأب يتوارى عنه ؛ خوفًا وحدَبًا وحنوًا ، وعلى الجانب الآخر ، تلد الأم ، وبدلاً من أن تعانق وليدها وتحتفى به ؛ دنوًا ، وملامسة حبات القلب ؛ تستجيب لنصائح الأطباء ، بحجبه عنها قرابة عشرة أيام، وربما طالت الشهر فطاولته .
وتتغلغل الأنانية مداها، فتصل إلى العلاقة الزوجية ؛ فيستحيل البعد ، والشطط فيه، حبًّا ، ويتبدل القرب، بغضًا مقيتًا؛ فيتهم الطرف ، الطرف الآخر ، بأنه لا يكترث بحياته، ولا يعبأ بها؛ إنْ هو حاول عناقًا، أو تقبيلاً، أو حتى ملامسةً .
لا يُحاجج أحدٌ ، إزاء هذه المشاهد أننا وبحق نعايش مشاهد يوم القيامة ، التى قال فيها المولى عزَّوجلّ: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴿٣٣﴾ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿٣٥﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿٣٧﴾( عبس:33-37)
لقد قالها رئيس وزراء بريطانيا: ودِّعوا أحباءكم، قالها ريثما تيقن من الموت الكورونى المحقق.
ومَن منَّا لم تنداح مآقيه، دموعًا وأنهارًا ، إذ أبصر الأطباء وهم ينزعون أجهزة التنفس الصناعى ممن بلغ من الكبر عِتيًّا ، ويمنحها لصغار السن ، ومَن فى سن الحداثة،أو على أقصى تقدير لمن هم دون الخمسين ، لقد انتهج الأطباء هذا المسلك ؛ متذرعين ، بالمبدأ الميكافيللى: الغاية تبرر الوسيلة؛ والمثل القائل: الحىُّ أبقى من الميت، فهذا المُسن عاش ما استطاع الحياة؛ فليخلى بقيًّة من حياة ، لمن هو دونه، لقد أربك كورونا الجميع؛ حتى مَن نحسبهم-ملائكة الرحمة-وهم كذلك حقًّا وصدقًا-نبصرهم مساعدى ملك الموت، بما أقدموا عليه؛ لا سيِّما فى إيطاليا:مرتع كورونا الأوروبى-إن صحَّ ذاك المصطلح-حيث استوطن واستفحل.
إلى عهد قريب جدًّا، كان يعتلى الإنسان همًّا ووصبًّا ونصبًا ممَّن يقابله،خاصة لو كان من المقربين إليه ، ومن خلصائه وجلسائه، ولا يكاد يحتفى به: سلامًا وتسليمًا، وعناقًا :لقاءً وفراقًا، أما والحال هذه ، فالحب كل الحب، والإيثار كل الإيثار فى التباعد قدر الإمكان؛ مجدولاً مع المثل القائل:ابعد حبة تزيد محبة، ومترافقًا مع القول ( زد غباً تزد حباً ، فمن أكثر الترداد أقصاه الملل ) وكذلك:قلّة التّردادْ.. تُثبّت الحُبّ بالأوتادْ، ومثيله : ( كن هلالاً ولا تكن قمراً ) ، وما ذاك إلا لأن الهلال لا يجىء دومًا ؛ لقد تجسد مشهد السَّامرى، فى ثنايا زمن كورونا؛ وتراءى منذرًا مُخيفًا، فأضحى يتوارى عن محبيه،خشية عليه؛ إنْ هو لمسه أحد ، أو لامسه؛ فيتساقط جسمه على الفور، يقول تعالى فى ذلك:- ( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (طه:97) وكان المُعادل الموضوعى له، مُصاب كورونا، لا سيِّما حين يقترب منه أحباؤه وحبات فؤاده، فنراه يستعطفهم ؛ ألا يقربوه؛ لئلا ينالهم-هم- أذًى، هذا الهرم المقلوب، الذى يثير الرهب .
ألقت قارعة كورونا، بظلالها على البشرية، ليس فى حصدها لها فحسب، بيد أنها أبت ، إلا أن يبلغ الأسى مداه، والحزن مبلغه، حيث تعقب ردة الفعل الجنونية ، حيال شهيدها، ورصد قسوة القلوب الطافحة ؛ تلك القلوب، التى أنشبت الأنانية فيها أظفارها ، وتسربت حتى إلى الوتين، فها هى ترفض أن يدفن شهداء كورونا بأرضه؛ إذ هم متيقنون أنه سوف يؤذيهم؛ حيث سينال منهم كورونا ؛ كما نال منه، حدث هذا بأرض الأزهر الشريف، وبأراضٍ أخرى؛ ووقف جسد الشهيد مسجىً ، لا يدرى بأى أرض يُثوى، وقد يكون هذا الشهيد ذا أيادٍ بيضاء عليهم ، وبسط لهم المِنن ، وقت الإحَن، تمامًا تمامًا، كما حدث ذلك مع الطبيبة الشهيدة ب:شبرا البهو بالدقهلية، والذى يَدعى إلى مزيد من الاستغراب أن أهالى القريتيْن: قرية الشهيدة وقرية زوجها أبوْا إباءً عنيفًا لإتمام إجراءات الدفن.على أنه ينبغى القول إنَّ المشهد ليس كله قاتمًا شديد القتامة؛ فثمّ مبادرة الأهالى من ربوع مصرنا الحبيبة تستنهض الهمم وتنبرى مُسدية قبورها لدفن شهداء كورونا
ويصل الأمر فى مراسم الجنازة ؛ لتقف هى الأخرى ، تطل برأسها ؛ مكملة مشهد لا يمكن تصوره، خيالاً لا حقيقةً، إنه ذاك المتمثل فى قلة المصلين على المتوفى ، وقلة المُشيّْعين لشهيد الكورونا، الذى غدا فى نظر غالبية قاطنى هذا الكوكب الأرضى سُبة ، وكائنًا غريبًا بات فرضًا التخلص منه:حيًّا كان أو ميتًا.
لقد عايشنا وتعايشنا بعضًا من مشاهد يوم القيامة ، وبعضًا مما حكاه القرآن الكريم،عبر كورونا لا أظن أنَّ بعضًا ممن كان يجحدها ، سيجد قدم صدق آنئذٍ، لما كان يعتقده: سرّا أو جهرًا، إضمارًا أم إظهارًا. لقد استذل كورونا أقبية الوجوه المزيفة ، فأماطها سافرة عمَّا انتوته، وأضمرته.
إننا نردد مع جائحة كورونا ، قُبالة ذلك كله ، قوله تعالى: ( مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران: 179)
إى وربى ! إنها تذكرة ، لمن أراد أن يرعوى، وعن غِيّه أن ينتهى.