مر العمر سريعا، كإبرة محقن تنزعها من وريد طفل، احتشدت سنوات الخبرة بالرأس، واستقرت نظرة العينين بعد حيرة البحث عن تشخيص صحيح، وهدأت ضربات القلب الذي اطمأن إلى كل وصفة كتبتها اليد الواثقة. تكدست مكتبتي بمراجع (تاراسكون) و(نيتلر)، وازدحمت صالة الانتظار في عيادتي بالمرضي و تلامذتي من الأطباء حديثي التخرج ممن جاءوا عرفانا أو لطلب المشورة. لم يعد يزعجني أن يدق أحد الجيران باب شقتي في وقت متأخر ليلا لأنني اعتدت السهر طويلا أقرأ ما يصلني كل يوم من الدوريات الطبية ثم اجلس في شرفتي أتأمل النجوم وأسرارها التي لا تنتهي كألغاز الجينات المعقدة عسيرة الفهم.
ورغما عني يلح علي في كل ليلة (وربما في كل وقت) السؤال الذي المحه في عيون طلابي من دارسي الطب وأطباء الامتياز و لم تنطقه ألسنتهم قط: ما الذي نحتاج إليه؟ أخبرنا بالسلاح المناسب لنحمله معنا في معركتنا الخالدة مع المرض، أعطنا المفتاح الذي ندخل به الحجرة الرهيبة التي ينتظرنا بها المريض وأسرته وأصدقاؤه وعلي الزوايا بين جدرانها ينسج الألم خيوطه، وعلي أرضها بساط الفناء مفرود. و إجابتي علي السؤال واحدة: الأمل هو كل ما يريده الطبيب. ربما وجم بعضكم في قنوط و غمغم: هذا فقط؟ . نعم، هذا هو كل ما لدي لكم، لن أرشح لكم قائمة من الكتب الضخمة لأنكم سوف تفعلون هذا وحدكم، لن أنصحكم بأسلوب تعامل محدد مع مرضاكم فهذا سوف تكتسبونه مع الأيام، علاجات معينة؟ عقاقير بالاسم؟ كلا ؛ كل هذا تعرفونه جيدا. ولكن تذكروا اللحظات الثقيلة التي مرت عليكم في غرفة العناية المركزة أو في مسرح العمليات الجراحية، تذكروا العيون الممتقعة لذوي المصاب وهي تبحث في ملامحكم عن الشيء الغالي الذي بدأت به كلامي، تذكروا الأمانة المعلقة في أعناقكم و سوف تعرفون أنكم طوال هذا الوقت كنتم تعبثون بمبضع دقيق، خطر بقدر ما هو ضروري، سلاح ذو حدين؛ أحدهما الأجل، و الآخر هو الأمل.
ولكن دعني أقص عليك موقفا عابرا حدث لي في بداية حياتي العملية. كنت قليل الخبرة و التجربة، أحمل معي حصيلة علم دام لأعوام مضافا إليها عشرات الملحوظات التي لم اقرأها في كتاب وإنما من حجرة الجراحة أخذتها، من حضّانات الأطفال تعلمتها، في عنابر أمراض العظام رأيتها.
الخرّيج يعتقد أنه مصنوع من زجاج. كان هذا عنوان لقصة قصيرة كتبها(سيرفانتس)، تصف هذه العبارة حالي وقتها، هش كقنينة من بلّور حفظوا بها مئات المعلومات وآلاف الأعراض وملايين المصطلحات، وأن أية حركة غير محسوبة أو ارتجالا في غير موضعه سوف يجعلني أتهشم ويصبح كل ما درسته بالإضافة إلى أحلامي مجرد شظايا!
لكني- كأي خريج- كانت لدي ثقة هائلة في ما أعرفه و بأنني لن أعجز كثيرا أمام معظم الحالات، و عما قريب سوف أعيد أمجاد العظيم (ويليام أوسلر)، لكني يجب أن أتواضع الآن وأقبل الاستمرار في مستشفاي الحكومي المتواضع. حيث القي التحية مع شروق الشمس علي الممرضة التي تبدأ اليوم بتسوية الفراش وإعداد أدوات الكشف وصوت أم كلثوم ينبعث من المذياع ليسعد صباح السامعين. وأرتدي معطفي الأبيض وأنتظر في عيادة متابعة حالات الأمراض الباطنة، وهذا النوع من العيادات خصصوا له الأطباء الصغار لقلة خطورته النسبية، ويدخل عليّ مريض التهاب المفاصل الروماتزمي الذي زارني من قبل مرارا ليخبرني بالجديد في حالته، وأتأمل أنا الانتفاخات التي انتشرت علي أصابعه، فأنصحه بارتداء ثياب بلا أزرار،أفحص عينيه المحمرتين واشدد عليه أن يبتاع عبوة جديدة من الدموع الصناعية، ثم أطمئن إلى دوامه علي استعمال (البريدنيزون) و(الميثوتريكسات).
وقبل أن يتركني في سلام، يتمزق هدوء المكان بخناجر الصفارة الحلزونية لسيارة الإسعاف، وخرجنا ثلاثتنا، بسمل المريض وحوقل وحمد الله على ألمه الخفيف حتما إذا ما قورن بالكارثة التي جلبتها العربة المشئومة وهرول خارجا يتعثر في الممرضة التي اربد وجهها كارهة أن تكون بداية اليوم علي هذا النحو، بينما تقدمت إلى الممر الضيق الذي سارت عليه المحفة المسحوبة علي عجلات يجرها اثنان من العمال وإلى جوارها تركض ممرضة شابة تحاول أن تأخذ فكرة أولية عن حالة المصاب قبل أن تحضّر الأدوات اللازمة. وهرعت ألحق بالموكب بينما راحوا يفتحون لنا باب غرفة الإسعافات علي الفور.
بدأت أدس رأسي بين المعاطف البيض أشارك في الفحص المبدئي عندما تناهت إلى سمعي صرخات ملتاعة من الخارج حجبتها عنا الأبواب التي أغلقتها إحدى الممرضات. رأيت في المحيطين بالفراش بعضا من زملائي ووجوه أخرى أعرفها وطبيب اكبر سنا. كانت المصابة امرأة في أواخر الأربعينات، لطّخ الدم المتجلط بعض الشعيرات البيضاء في رأسها، هزيلة الجسم، شاحبة الوجه يبدو أنها قد فقدت كمية كبيرة من الدم. بقعة زرقاء داكنة أسفل جلد الفخذ الأبيض تشير إلى كسر مضاعف. ضغط دمها منخفض بشكل مرعب و كذلك درجة حرارة جسمها و سرعة تنفسها، الاستثناء كان نبضها المتسارع . سحبنا منها عينة دم للحصول علي صورة كاملة وتحضير كمية جديدة تعوّض ما فقدته، بؤبؤ العين يستجيب، حمدا لله، ولكن هل هو ارتجاج أم ...؟ أرسلنا في استدعاء أخصائيو الأعصاب والعظام لتقرير ما لدينا، وجاء الدور عليّ أن اصحب المسكينة الغارقة في اللا وعي لإجراء فحصا علي المخ.
بالخارج تعلقت بنا الوجوه الملتاعة تسأل. رجل في الخمسينات جاحظ العينين، حرق القلق إطراف أعصابه وابنتان إحداهما مراهقة والأخرى طفلة وكلتاهما تبكي بحرقة، هي أسرتها في الغالب، هربت من نظراتهم ومن سؤال الزوج بهزة رأٍس مطمئنة، وأسرعنا بالسيدة المصابة إلى حجرة الأشعة المقطعية .
أمام الجهاز الذي يرسم علي الشاشة السوداء قطاعات مختلفة من مخ المصابة سألت طبيبة الأشعة عما إذا كانت هذه المرأة الهزيلة سوف تتحمل قيء وصداع متلازمة (ما بعد الارتجاج)، نقرت بفأرة الكمبيوتر وهي تهز رأسها يأسا ومن ركن شفتيها غمغمت بشيء من السخرية:
- "إنه ارتجاج من الدرجة الثالثة، لا تتفاءل كثيرا، كما أن هذا ليس هو السؤال المهم الآن."
أعرف ما الذي تعنيه. وحتى تحميض الفيلم لعرضه على طبيب المخ و الأعصاب، نقلنا المصابة إلى قسم العناية الفائقة وهناك نقلنا لها لترا ونصف من الدم، وأخبرنا الرجل الذي هدأ نوعا -عندما علم أن زوجته لم تزل علي قيد الحياة؛ إنها تعاني من داء السكري فتم تعليق محاليل ملحية عبر خط وريدي وتجبير كسر الساق ثم تحرير ورقة علاج.
لم تكف أيا من الفتاتين عن البكاء الحار الذي لا تعرف كيف تتصرف أمامه. خاصة وان تلك الدموع الملتهبة تتفجر بغزارة من عيون تتابع كل كلمة تخرج من بين شفتيك تقرر جديدا في حالة الأم الغائبة عن الإدراك، وكأنك سوف تنطق الحكم بالإعدام أو تبشرهم بالنجاة. وفي الحقيقة أنت لا تعرف بم تجيب.
الضوء الأبيض في لون الثلج وبرودته لا يقاوم الليل الذي زحف كجبل فسد النوافذ، كما عجزت زجاجات الدواء والمحاليل في خزاناتنا أمام كل هذا الألم، ولم يبق من أثرها سوى رائحة كئيبة مميزة لا تزكم انفك فتغلقها وتسترح بل تتسلل إلى روحك ذاتها وتفاجئك بكيان أسود ثقيل يجثم علي صدرك ويكتم أنفاسك. الخراطيم البلاستيكية تخرج وتدخل من فتحتي أنف مريضتي البائسة ومن فمها، معدلاتها الحيوية ارتفعت بشكل مقلق ما جعلنا نتعامل بحذر مع المحلول الملحي وأضفنا المانيتول لأوديما المخ. و تولت(سامية)- البنت الصغرى كما عرفت اسمها فيما بعد-وضع الكمّادات الباردة علي جسد الأم الساخن، كانت تعمل في هدوء مضطرب وحزين وقطعة من الليل اليائس سكنت ملامحها، نفس التعبير بعمق أخطر وبحدة أكثر رأيته علي وجه أختها (حنان) التي استحلفتني بكل غال ألا اكذب وأن أخبرها بحقيقة ما يجري. وفي عينيها المبتلتين نظرة مذعورة تقول: بالله لا تنطق بحرف،أعرف أن أمي تموت! هربت من دموعها وأنا أتسائل أين الزوج يا ترى. وفي طريقي إلى حجرة الأطباء سمعت تمتمة في ركن قصي من أركان الممر الرخامي خارج حجرة الرعاية. كان يصلي بالقرب من إحدى النوافذ.
في الحجرة الضيقة المكدّسة بملفات المرضي ودواليب العلاج جلست أمام صورة الأشعة لمخ المرأة، أسيرا لكآبتي وحيرتي وعجزي، نمت مرهقا فوق اللوحة السوداء علي المكتب، واسم الله في دعاء الرجل لزوجته بالشفاء كان آخر ما أدركته قبل أن أغيب عن الوجود.
***
تذكروا أن الطبيب لا يجب أن تطول غفوته وإلا كان العقاب أسطوريا! أيقنت أن شيئا من هذا القبيل كان وشيك الحدوث عندما شعرت بيد غليظة تدق كتفي تحاول إيقاظي.
وقف أمامي بقامته المديدة في معطفه الأبيض، وشعره الأشيب الوقور ونظرات عينيه الحادة تتفرس في وجهي المرتبك.
-"عظيم جدا! منذ متي يترك الأطباء مرضاهم وينعمون بالأحلام الوردية؟"
بهدوء لا يتماشى مع حاجبيه المنعقدين قالها، وبصرامة أستحقها سمعتها. لهجته حازمة واثقة كمن اعتاد إلقاء الأوامر طيلة عمره. لابد وأنها النهاية إذن! هو ولاشك رئيس هذا القسم يمر علي مرضاه في هذه الساعة تحديدا لحسن حظي! لقد ضعت!
قمت من مكاني وأنا من الحرج في نهاية. جلس إلى المكتب يحك لحيته البيضاء الصغيرة يفكر في شنقي أو خنقي أو حرقي أو ...وفي النهاية قال آخر شيء يمكن أن أفكر فيه:
-"دنيا!"
حدقت في وجهه غير فاهم عم يتكلم بالضبط، فنظر إلى عيني مباشرة و قال بنفس الهدوء المتين:
-" السيدة( دنيا الرحيمي)."
يالهي! انه اسم المرأة المصابة، نزيلة الطواريء الوحيدة لهذا اليوم، أدخلتها هنا بنفسي، وكتبت تذكرة علاجها بأصابع قفازي الطبي الملوثة بما نزفته من دم فكيف نسيت؟
-"أجل يا سيدي، إنها تلك المريضة بالارتجاج الميئوس منه، ولقد حاولنا أن.."
قطع عبارتي بحدة سيف مسنون:
-" هراء! متي تكفون عن قول ما لا تعلمون؟ تماطلون في التفكير وتتكاسلون في العمل والأمل بالخالق ثم تستسلمون للقنوط بسرعة البرق."
حاولت أن أقول شيء ما لكنه أخرسني بقنبلة أخرى:
-" كيف تأكدت أنه ارتجاجا يا بني؟ وإن كان، فمن منا يجزم بأنه ميئوس منه؟ ثم أخبرني ما هو الذي حاولت أن تفعله بالضبط؟"
لم أعرف بم أجيب، فابتسم ساخرا وأشار إلى الباب :
-" اذهب إلى مريضتك، إنها في انتظارك، وأهلها كذلك، امنحهم الأمل، وأعطها ما تركه الله ديناً معك من علم وعمل. أما أنت فيجب أن تؤمن بصدق."
أسرعت بالخروج لكنه استوقفني بلهجته الآمرة، فالتفتّ إليه ورأيته يتناول صورة الأشعة التي تحتاج إلى إعادة فحص و يمدها إليّ:
-" لا تنس هذه. خذها معك."
أخذتها منه وانطلقت خارج الحجرة لا ألوي علي شيء.
الأطباء الصغار متحمسون ويعرفون الكثير، لديهم من العلم ما يملأ مكتبات العالم، وأستطيع أن أبرهن على أن أكثر من طبيب حديث التخرج استطاع أن يتحدى أستاذه وأن يثبت له أنه على خطأ، وأن الارتجاج من الدرجة الثالثة هو كارثة ميئوس منها بالفعل وأنه مهما حاولنا فان تقدمنا محدود، لكنه لم يكن كذلك! و يجب الاعتراف أن الأكبر يعرف أكثر، وأننا- مرة أخرى-لم نعرف كل شيء.
بعد ثلاثة اشهر من هذه الليلة تقريبا كنت مدعوا إلى حفل زفاف (حنان) البنت الشابة، ولم تكن الدموع تلمع في عينيها هذه المرة، وأخذت مجلسي بين الزوج وابنته الصغرى والسيدة (دنيا الرحيمي).
شيء آخر أعتقد أنه غير ذي بال في هذه القصة؛ في الصباح التالي لليلتي الموعودة قصصت ما حدث لأحد زملائي في العمل، فاعتقد أنني امزح، فلم تكن الأوصاف التي حكيتها عن الرجل تشبه من قريب أو من بعيد رئيس القسم الذي أقسم الجميع عند سؤالي أنه لم يأت في هذه الليلة على الإطلاق ولم يدخل من أي باب.
شعرت بالغرابة، لكنني لم أفكر كثيرا في الأمر، شغلني تيار اليوم المشحون والعمل المنهك بالمستشفي، وخمنت أنه رئيس رئيس القسم أو هو صاحب مقام أعلى، وارتحت إلى هذا التفسير، ثم تراجعت الحادثة بالكامل إلى عقلي اللا واعي. إلا أنني في لحظات ليست بالقليلة أتقدم ببطء فوق الممر الرخامي تحت الضوء النيون البارد ورائحة الدواء المختلطة وأقف بجوار النافذة التي يتسلل منها الليل يحاول الدخول، لكننا نقاوم. وأفكر في انه على الرغم من كل ما لدينا وكل ما نعرفه لا يزال جل ما نحتاج إليه هو إيمان.. وأمل.